جديد

07‏/07‏/2017

دراسة في قصيدة /عم اسماعيل للشاعرة منى الغريب اطلالة الشاعر الكبير / محمد البنا



 


دراسة في قصيدة /عم اسماعيل للشاعرة منى الغريب
اطلالة الشاعر الكبير / محمد البنا
---------
أي متابع لأشعار الشاعرة / منى الغريب ..لا يجد صعوبة في تصنيف هذا النص بأنه مختلف إختلافًا بيِّنًاعن مجمل أشعارها التي سبقته سواء العاطفي منها أو الديني والوطني، وهو ما أعتبره نقلة جيدة قفزت بها الشاعرة خطوات واسعة في الطريق الشاق ، لتحتل مكانتها التي تليق بها بين شعراء الواقعية الساحرة، نعم ساحرة ببساطتها، ودقة تصويرها، وعمق دلالة ألفاظها
تستهل القصيدة ..الساعة دقت أربعة / ف راديو الجيران ....أربعة دلالة زمنية على أنه قد حان وقت صلاة الفجر في يومٍ صيفي ، ولكن لم في راديو الجيران ؟ ليست.. الضرورة الشعرية ولكنها الدالة التأويلية الثانية ها هنا ..دالة الفقر المدقع بعدم إمتلاك جهاز بسيط كالراديو في عصر صار فيه الدش من الأساسيات المتوافرة في كل بيت تقريبا، وتمضي الشاعرة بنا مستهلة رحلة يومية متكررة في حياة فردٍ بسيط، أو هكذا تخيلنا أنها ستمضي على هذا النسق الواقعي، فتقول ..
شمَّر إيديه ..واتوضا
من دمع الخشوع
نادى الإمام في الميكروفون
النوم صحيح راحة وكسل
لكن صلاة الفجر خير...... الله على البساطة والعفوية الشعرية، شمر إيديه ...دليل همة وعزم وإقبال على الوضوء ولكن بما يتوضأ ؟ ..ماء ؟ ...نعم ولكن دموع !!...دمع خشوع ..تفسير مقبول آنيًا ولكننا سنكتشف لاحقًا أنه يعني ما هو أكثر من ذلك ، الصلاة خيرٌ من النوم ..جملة من متن الآذان اختص بها آذان الفجر، أفردتها الشاعرة بعاميتها اللغوية ببراعة وبراءة محببة...النوم صحيح راحة وكسل / لكن صلاة الفجر خير، وتمضي قائلة...
عم اسماعيل سبق الطريق
ميّةِ وضوؤه رطبت
صُبحه البرئ
تبدر من الحسنات كتير
يوصل لغاية مسْجدُه
تتقدم الرِجل اليمين
والقلب ناحية قبلته
يخشع ف صف
الموعودين بالمغفرة
يرفع إيديه بالدعوتين
بين الدموع
يارب تقبل سجدتي
ويَّا الركوع......عم اسماعيل سبق الطريق !! ..الطريق إلى المسجد ..الطريق للقاء رب العباد، تسبق دقات قلبه ولهفتها وتشوقها للقاء ربها خطوات قدميه، وفي كل دقة وخطوة حسنة تضاف وسيئة تنمحي، وفي عفوية رااااائعة تعبر الشاعرة عما نفعله جميعًا عندما ندخل بيت الله ، ندخله بالقدم اليمنى وعيوننا تتجه لا إراديًا صوب القبلة     أو المنبر!!، وما بين القيام ورفع اليدين وما بعد السجود ..دعاء ورجاء
واما يحين ..وقت الرجوع

رجليه تطبطب ع الرصيف

تستقبله...

كل السلالم بالرضا

تفتح له أبواب شقته

تمسح حيطان البيت

همومه وشكوته

تنطق شفايفه ببسملة

تتمد قدامه الإيدين

اللقمة حاف

والصحن متنشق بفول

والملح من عرق الجبين

ياكل ويحمد ربنا

يحفظها ربي م الزوال.....انهى صلاته وحان وقت الإياب إلى بيته وبينهما طريق...رجليه تطبطب ع الرصيف ..دالة مركبة حوت بين دفتيها ..الطمأنينة والسكينة والهدوء وكبر السن والحنان المفرط ..يااااه كل هذا في جملة واحدة من ثلاث كلمات وحرف جر ...رجليه تطبطب ع الرصيف، وتمعن الشاعرة في تعميق القوة الدلالية لتأثير طاعة الله على عبده المطيع فيسخر الرب كل ما حوله لخدمته، تؤنس الشاعرة سلالم البيت فتتهلل باشة وتستقبله بالرضا ، وتحنو عليه حيطان البيت وتمسح كأم حانية همومه وشكوته، لينتقل بنا المشهد في سلاسة إلى عم إسماعيل وهو يبدأ طعام إفطاره بالبسملة، فول وعيش.. ولكنه حلال حلال [ الملح من عرق الجبين ] 
ياكل ويحمد ربنا

ويلفّ طيفه في المكان

مِيت ألف فكره بتحضنه

والذكريات

من بين ضلوعه بتطحنه

رجِّ الوجع كل الحيطان

صرخت براويز الصور

سِمعِ النِدا من فرشته......المكان لم يتغير والزمن هنيهة مضت لتتجول نفسه في دواخلها وما يحيط بها خارجها....يستدعي الذكريات وتستدعيه الأفكار، كأنما هى معركة ضارية تستعر نيرانها بين أفكار وذكريات حطبها عم إسماعيل!! فترتعد الجدران وتصرخ براويز الصور ...رجع الوجع كل الحيطان ..الحيطان ترتج ويرشح من صمتها أحاديث وتحركات أناس نشعر بهم ولا نعرفهم ولكنه يعرفهم ، وتصرخ براويز الصور ...تتحول الصور الصماء إلى أحياء ينادونه، فيستجيب فراشه المروي بدموعه ملبيًا النداء، ومجسدًا مشهدًا نراه بحواسنا كما يعايشه عم إسماعيل بكل حواسه
ولكن من لبى النداء ؟ ...عم إسماعيل ؟! ..نعم هو ولا غيره، إذن الرجل يسبح في ذكرياته هائمًا مع طيفه كأنهما شخصين منفصلين ، فنراه يخاطب ولده...
" يالا بقى قوم يا "عمر

أكوي لك القمصان ياواد

مش قولت عندي محاضرتين

واللي بتضحك من كلامي

لما أقولها..شكشنين.....ويمضي عمنا في إجترار ذكرياته ، والاليات تتضح شيئًا فشيئًا ، وإلا فما معنى أن يقوم الأب على خدمة ولده ؟ ..سوى أن الأم والزوجة قد سبقته في الرحيل لملاقاة ربها ...إذن النص لا يرتكز على يومية من يوميات رجل فقير ولكنه يرمي إلى مقصدٍ آخر أكثر عمقًا ودلالة
عم إسماعيل ....
تقدمة وتنبيه لإنتشال المتلقي من بحر استغراقه في المشهد الطيفي سابحًا مع العجوز على أمواج ذكرياته، تنبيه وإيقاظ على مشهد حياة يألفها معظمنا وخاصة الكادحين المتوكلين على الله والمنتظرين فضله الطامعين في كرمه ، تقول الشاعرة....عم اسماعيل

بيودّع البيت بالدُّعا

ولسانه بالأذكار يطيب

وف سكة الأرزاق سعى

بيردد "الناس" و"الفلق "

وتزيد صلاته ع الحبيب

يوصل لشغله في الميدان

ويطلع العدة اللي شاخت

م الزمن قبل الآوان

و "أحمد "صبيهُ من ساعات

واقف ف كف الإنتظار

بيرش ميَّه في المكان

ويقطَّع العيش والخضار
مشهد مكتمل عربة وبائع ومساعد وخامات يتم تجهيزها بسرعة وعناية تمهيدًا للبيع مع أول طارق طالب خدمة ، فهل يأتي ؟.
عم اسماعيل

حسّ النهاردة مختلف

تقدر تقول دا يوم عجب

الشمس مش مشتاقة ليه

والصبح عن نوره احتجب

ومفيش زبون هوِّب عليه

ولا حد قاله هات طلب...... يمضي الوقت ثقيلاً ، بشمسه التي لم تشرق، ونهاره الذي طلق نوره طلاقًا بائنًا، وكما لم تأت الشمس، غاب معها البشر أيضًا
إيه السبب؟

لملم صحون المَحزنة

سفْلت طريق المرِّ طين

فجَّر دموع العين روافد

ع الخدود الطيبين

أصل الهموم شقت طريق

فوق وشه على مر السنين

راحت ليالي الأنس

والأمل اللي جاي

ربَّك أمر..

مكتوب كلامه ع الجبين

نِسْيانُه من طبع البشر.... كأي إنسان يتساءل عم اسماعيل ..إيه السبب ؟! ...ليس إعتراضًا ولكنه ما جُبل عليه البشر في لحظات الضعف، هو لم يُقصر في الإعداد والتجهيز والسعي لجلب الرزق، ولكنها مشيئة الله وإرادته التي لا راد لها...لا رزق اليوم ، سرعان ما يستعيد إيمانه ورضاءه بما قسم الله له...ربك أمر / مكتوب كلامه ع الجبين
وهنا نتوقف عند جملة بسيطة جدًا ولكنها عميقة الدلالة انهت بها الشاعرة المشهد السابق واستهلت بها مشهد الخاتمة ..." نسيانه من طبع البشر " ...انهت المشهد الذي لا رزق فيه ، والتساؤل الإستغرابي والدموع والهموم، واستهلت بها مشهد الخاتمة مع إبقائها على الكادر المشهدي [ الميدان والعربة ] ليأتي الإستغراب والتساؤل من بعض من يعرفونه إشفاقًا على الرجل المكلوم في وفاة فلذة كبده.... 
نِسْيانُه من طبع البشر

والسهم نفِّد في الضلوع

والصوت بأوجاعك نده

عم اسماعيل

إيه اللي جابك م البدا

ليه العناد

ده انت في أول يوم

لأيام الحداد
........................
القصيدة في ظاهرها رصد دقيق لم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكرها مستعرضًا يومًا من حياة رجل كادح فقير مكلوم في وفاة ولده، لكنه رغم مأساته لم يتوقف للحظة عن طلب الرزق والاستمرار في التنفس طالما بين ضلوعه قلبًا ينبض، وفي باطنها عدة منحنيات ، في كل منحنى العديد من الصور المتراكبة على بساطتها اللغوية ، لتشكل فسفساء رائعة الجمال ، وتكون في ذهن المتلقي صورة كلية تداخل فيها الدين [ الصلاة والوضوء والفجر والدعاء والركوع والسجود ] مع حيطان البيت والصور الفوتوغرافية المعلقة على الحائط والفراش واللقمة الحاف والجبنة والخيار والولد وكتبه وجامعته، وتختتم بطلب الرزق والسعي له [ الميدان / العربة المساعد / الأطباق / الزبون ]...فسيفساء جميلة تناسقت ألوانها بمهارة وحرفية مذهلة نازعت العفوية في تلقائيتها وانسيابها السردي ....هذا من المنظور التركيبي للنص
أما من منظور اللغة ، فلا شك لدينا أن الشاعرة تملك نواصي الكلم العامي وتُبرع فيه، باستخدامه دون تكلف أو مبالغة، كما برعت الشاعرة في الاستعانة بالموروثات الشعبية والدينية ...وخاصة في مدلولات السعي للرزق وجلبه [ الناس والفلق / رش [الماء في مكان العمل
ومن منظور الموسيقى الخارجية فقد نوعت الشاعرة قافيتها بين العديد من القوافي، لتعزف لنا مقطوعة موسيقية متناغمة أحرفها الظاهرية مع موسيقى النص الداخلية [ الحزينة المكلومة ] فلا نرى مشهدًا مبهجًا يطل علينا ببشاشته حتى المشهد المستدعى من الذاكرة في حواره مع ابنه الفقيد بدا لنا كابتسامة تذرفها الدموع ، النص متخم بالصور البلاغية والتي صيغت بعناية في مواضعها وفي وقتها المناسب ودلالتها الموحية وقوة تأثرها في ذهنية القارئ بدءًا من ...دموع الخشوع ومرورًا بـ ..رجليه تطبطب ع الرصيف وانتهاءً بــ..والصوت بأوجاعك نده .
......
تحياتي وتقديري
محمد البنا
في 18/ مايو / 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق